يتهادى إلى مسمعي ضوضاء وصخب قريب , افتح عيني بتثاقل ولا أجد جابر في سريره الأرضي , أتجه للباب , جابر في ساحة الحوش يعين في التحميل لسيارات الانا قليل ادبائن ...
: إنه موعد قدوم الانا قليل ادبائن .. وسننطلق مع أحدهم حسب تعليمات سعيد .
: وأين ستكون وجهتنا ؟
: قرية بديع الخرم لمقابلة خالك .
: متى ؟
: الآن .
: سنغادر مشيا إلى الصين الشعبية وهناك نقابل ( ضيف الله ) لنقلنا .
: هههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه.
: لماذا تضحك ؟
: صحيح أنا لم أكمل تعليمي لكن على الأقل لا يغيب عن فهمي أن الصين بلد آسيوي بعيد جدا ويستحيل علينا الوصول إليه .
: آسف , نسيت أنك تدخل السعودية للمرة الأولى .
: ماذا تقصد ؟
: الصين واليابان اسمان لأماكن سكنى مؤقتة للمجهولين على مشارف وادي صامطة .
: هكذا يزول العجب .
نتجه للصين والتي تتكون من شريط طويل من المنازل المؤقتة من الكراتين والزنك والحديد الصدئ والغريب أثناء مروري بها وجارتها اليابان أن سكانها من العوائل والأطفال في حالات واضحة من البؤس وشظف العيش في مناظر لا تشاهد إلا في مجاهل أفريقيا وغابات أمريكا الجنوبية . في بلدي لم أرى هذا البؤس !
نركب سيارة ( ضيف الله ) شاب سعودي في العشرينات من عمره خارج ( الصين ) , سيارته كامري سوداء اللون , رافقنا رحلتنا أربعة من أبناء جلدتنا غيري وجابر .
اشترى ضيف الله تخزينته فقط وأخذ حمولته من البشر وأجرته مدفوعة مسبقا من سعيد ـ بالنسبة لي ولجابر ـ جزاء إيصالنا للحمولة ليلة البارحة حسب اتفاق بينه وبين قايد .
تلفونه الجوال على إذنه تقريبا طوال الوقت ويبدو أنه يكلم شخصا آخر يسبقه ويبين له تفاصيل طريقه الذي سيسلكه ونقاط التفتيش التي قد تعترضه وهو يسلك طرقا زراعية متعرجة مررنا خلالها بقرى عديدة وبسرعة كبيرة لدرجة أحسست أن السيارة ستنقلب بنا في أكثر من مرة .
يتوقف بنا بعد حوالي الساعة في قرية اسمها ( العروس ) ويأخذ من كل واحد من الأربعة الذين معنا 50 ريالا , ويواصل سيره ثم ينزلنا أمام مزرعة صغيرة .. ويسلم جابر ورقة فيها رقم جواله للإتصال به عند الرغبة في النقل من مكان لآخر
: هنا يعمل خالك .
: جيد .
ندخل المزرعة قبيل غروب الشمس ونقابل اثنين من أبناء جلدتنا يسألهم جابر عن خالي فيشيرون لغرفة في أقصى المزرعة , الغرفة بلا باب وخالي يجلس يشرب الشاي على الأرض ..
: معقولة .. حسن .
: السلام عليكم .
: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
أقبل رأس خالي ..
: كيف فعلت ذلك يا ولد ؟ وما أدراك عن مكاني ؟
: البركة في الخبير جابر .
يلتفت لجابر ..
: أهلا يا ولدي .
: أهلا بك .
: أعذرني , لقد فوجئت برؤية حسن ونسيت الترحيب بك . لم أره منذ سنوات طويلة ولم أتوقع رؤيته هنا تحديدا .
: لا بأس .
: شكرا على كل شيء .
: لا شكر على واجب .
: استريحوا , سأحضر لكم العشاء .
إنه فجر الثلاثاء .. زقزقة العصافير وخرير المياه تهادت إلى مسمعي بعد نوم عميق طوال ليلة أمس .
خالي يسقي المزرعة ..
: صباح الخير خال .
: صباح النور .
: أين جابر لا أرى له أثرا ؟
: لقد غادر قبل شروق الشمس قاصدا ( قرية السادلية ) .
: وأين تقع ؟
: جنوب أبو عريش .
: ولماذا لم يخبرني أو يصطحبني معه .
: أنه يسكن هناك مع مجموعة من اليمنيين وستعمل أنت معي .
: في المزرعة .
: بالطبع , هل لديك خيار آخر ؟
: لا أدري , لكني كنت أعتقد بأني سأعمل مع جابر .
: جابر يعمل سباكا تحت الطلب وبين رفاقه الذين يسكن معهم النجار والدهان والحداد والمبلط والبناء والكهربائي وأظن أنك لا تتقن مثل هذه الأمور .
: وكيف يتقنها هؤلاء ؟
: تعلموها هنا بالمشاهدة والمشاركة حتى صاروا ( معلمين ) فيها .
: وكم سيكون أجري هنا ؟
: لن يتجاوز 200 ريال إذا وافق صاحب المزرعة.
: فقط .
: شاملة طعامك ومقر سكنك ونومك وحتى تخزينتك اليومية .
: ومتى أبدأ العمل ؟
: حالا , وسأكلم لك صاحب المزرعة عندما يجلب لنا الغداء فقد لا يكون في حاجة لخدماتك .
: على بركة الله .
أنفذ أوامر خالي , يسلمني مسحاة أمهد بها طريق الماء لري المزروعات ثم يضع بين يدي ( محشا ) ويطالبني بحش / قص القصب , ننتقل بعدها لقطف ثمار الطماطم ثم الفلفل وتجميعهما في كراتين معدة لذلك لتسويقها وبيعها في السوق ـ حسب كلام خالي ـ ونقوم بإخراج ( البقل ) من باطن الأرض وتنظيف جذورها البيضاء وربطها في حزم لبيعها ..
بعد أن صارت غلة السوق جاهزة يقدم للمزرعة شاب يبدو أنه لم يتجاوز السادسة عشر من عمره على سيارة نيسان غمارة واحدة يخبرني خالي أنه ابن صاحب المزرعة ونقوم بتحميل غلة السوق ثم يغادرنا ..
: أخبرني الولد أن والده لن يستطيع الحضور للمزرعة .
: وما معنى ذلك ؟
: معناه أن قرار عملك من عدمه سيتأجل للغد .
: خيرا إن شاء الله .
وأنا أتمشى في المزرعة بعد الظهيرة لاحظت أن العمال يجمعون من الأشجار المحيطة بالمزرعة اللوز المحلي بكميات كبيرة وفهمت منهم أنهم يقومون ببيعها حيث يقف بعضهم على الطريق الرابط بين أبو عريش وجازان القريب من المزرعة بينما يذهب أحدهم بما يجمع بعد أن يضعها في أكياس صغيرة أما مدارس الأولاد والبنات ويبيعها لهم أثناء خروجهم في نهاية يومهم الدراسي .
[center]مع صبيحة يوم الأربعاء أقوم بتقطيع أوراق الملوخية والجرجير وتجميعها في حزم متساوية ..
لقد بدأت أرتاح لهذا المكان , يكفيك الهواء العليل والراحة النفسية التي يجلبها الجو الطبيعي ومناظر الخضرة وصوت الماء الجاري والعصافير وحنو خالي علي واهتمامه الزائد ..
مع موعد الغداء يدخل باب المزرعة رجل كبير في السن صاحب لحية بيضاء وقامة قصيرة على نفس السيارة التي جاءنا فيها الولد الصغير صباح أمس ..
: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
يرد خالي ..
: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته , سلامات عم سالم .
: الله يسلمك , أبدا كان عندي موعد في مستشفى الملك فهد .
: هل ستجري عملية ؟
: نعم , أعطوني موعد لها بعد ثلاثة شهور .
: مويا زرقاء ولا بيضاء .
: يقولون زرقاء .
: على فكرة عم سالم , هذا ولد أختي حسن .
: أهلا وسهلا .
: كنت أريدك في موضوع على جنب لو سمحت .
يسحب خالي صاحب المزرعة في طرف قصي ويدور بينهما حوار بكل تأكيد موضوعه عملي بالمزرعة .
...................
يؤذن للعشاء ويبلغني خالي أسفه لعدم قبول صاحب المزرعة لعملي عنده لاكتفائه بالعدد الموجود ويخبرني أنه سيرافقني لقرية السادلية حيث جابر حسب نصيحته ..
[/center]